• بعد الترسيم البحري:

بعد الترسيم البحري: "خرق المتر" كأنه تجاوز مجرى الليطاني!

(صحيفة الجمهورية - جورج شاهين)

شارك هذا الخبر

لم يتعمّق أحد بعد في قراءة حادث "تلة الراهب" بين الجيش اللبناني والعدو الاسرائيلي في القطاع الغربي لمنطقة عمل قوات "اليونيفيل" في حنوب لبنان. ولم يتوسّع الحديث بعد عن دلالات ما انتهت إليه المواجهة المحدودة بينهما إثر زرع العدو وتداً في بقعة مُتنازع عليها، ليسجّل خرقاً إضافياً الى خرق سابق. وعليه، تقول إحدى القراءات انّ ما حصل من خرق لمتر واحد يساوي الخرق السابق حتى مجرى نهر الليطاني عام 82. وعليه، ما الذي تعنيه هذه المعادلة؟

توقفت مراجع سياسية وديبلوماسية أمام عدد من المفاهيم والرسائل التي عبّرت عنها الحادثة التي وقعت ظهر أمس الأول الاحد في محيط بلدة "عيتا الشعب" بين قوّتين من الجيش اللبناني وجيش العدو الاسرائيلي، والتي حالَ دون تطورها تدخّل قوة من فريق المراقبين في "اليونيفل" على مقربة من احدى نقاط "الخط الازرق"، وتحديداً ما يُعرف بـ"تلة الراهب" الواقعة في خراج بلدة عيتا الشعب في القطاع الغربي لمنطقة انتشار قوات الأمم المتحدة، بعدما حاول عنصر اسرائيلي زرع وتد في داخل الأراضي اللبنانية بما يسجّل خرقاً لمتر واحد تقريباً الى الجانب اللبناني من الحدود.
وقبل التوسّع في شرح ما جرى والرسائل التي حفلت بها الحادثة المستجدة بين الجيشين، لا بد من العودة الى بيان قيادة الجيش اللبناني الذي تحدث عن المواجهة مُوثّقاً لما حصل ومُحدداً وقوع الخرق الإسرائيلي ما بين الساعة 11.55 والساعة 12.00 من قبل ظهر يوم الاحد في 5 آذار الجاري، حيث خرقت دورية تابعة للعدو الإسرائيلي الخط الأزرق قرب النقطة (BP 13- 1) في خراج بلدة عيتا الشعب بمسافة متر واحد تقريبًا، فحضرت دورية من الجيش اللبناني وأجبرت الدورية المعادية على التراجع إلى ما بعد الخط الأزرق في اتجاه الأراضي الفلسطينية المحتلة. كما حضرت دورية من قوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان للتحقق من الخرق.
ويقتضي عند التمعّن في مضمون البيان والبحث في أسباب تحديد النقطة التي وقع فيها الخرق، الاشارة الى انّ هذه النقطة تقع في منطقة متنازع عليها بين الجانبين اللبناني والاسرائيلي وما زالت مُدرجة على لائحة النقاط الـ 13 المختلف عليها بينهما، ولم تفلح الأمم المتحدة في تصحيحها كما في النقاط الأخرى منذ ان بدأت بترسيم "الخط الأزرق" عملاً بمقتضيات القرار 1701 الصادر في 12 آب 2006 بعد حرب تموز من ذلك العام. علماً ان "الخط الأزرق" لا يعتبر بالمفاهيم المتّفق عليها بين الاطراف الثلاثة لبنان وإسرائيل والأمم المتحدة انه الحدود الدولية مع فلسطين المحتلة، لأنه يختلف عن خط الهدنة المكرّس قانونا في دوائر الأمم المتحدة ومُعترف به من مختلف الأطراف كما تم توثيقه في اتفاقية الهدنة عام 49.
وعليه، فقد لفتت المراجع المعنية الى انّ الإجراء الذي أقدمت عليه قوة الجيش اللبناني استندَت في تصرفها الى رفضها اي خرق للاراضي اللبنانية ولو بسنتيمترات محدودة تتجاوز العلامات المحددة في اي نقطة حدودية. فكيف ان ما حصل شكّل خرقاً بمتر واحد في نقطة فرعية متنازع عليها وقد حملت (الرقم 1)، وهي نقطة جديدة تم تعليمها "بالاحمر" منذ سنوات قليلة وتقع على بُعد عشرات الامتار من منطقة الخرق المعرّف عنها بالنقطة الزرقاء التي تحمل (الرقم BP 13)، وهي صخرة كبيرة تعلو ثلاثة امتار تجاوزَتها اسرائيل بوضع "الشريط التقني" شمالها لمنع الجانب اللبناني من استخدامها كنقطة عالية تُشرف على مناطق في الداخل المحتل، ولم تنجح الأمم المتحدة بعد في إقناع الجانب الاسرائيلي بنزع ذلك الشريط ومَدّه الى الجانب الجنوبي من الصخرة لتحريرها لمصلحة الجانب اللبناني.
والى هذه المعطيات اللوجستية والتقنية المتصلة بجغرافية المنطقة، والتي لا يرقى إليها اي شك، فقد اكتسب الحادث قراءة تقنية وعسكرية مختلفة تؤكد حق لبنان في إصراره على منع اي خرق لأراضيه أياً كان حجمه. وانّ على اسرائيل الامتثال لهذا المنطق والتزام ما هو مطلوب منها بدليل انسحاب القوة العدوّة فور نزع العسكريين اللبنانيين للوتد المزروع في الجانب اللبناني من الحدود ورَميه الى الجانب الآخر المقابل لها من دون اي ردة فعل تذكر، ما خلا تلك الأجواء التي استدعت استنفاراً متبادلاً امتدّ لدقائق معدودة، قبل ان يفصل بينهما عدد من مراقبي قوات الأمم المتحدة لتنتهي المواجهة بانسحاب القوتين الى الخطوط الخلفية للحدود المتقابلة.
والى هذه القراءة الأمنية والعسكرية يبقى الاهم في القراءة الديبلوماسية لما حدث، وهو ما دلّت اليه مراجع متخصصة بالقول ان اي مواجهة بين قوتين من جيشين نظاميين تابعين لدولتين مستقلتين مُعترف بهما لدى الأمم المتحدة لها عدة معان وتفسيرات وتداعيات مختلفة عن تلك التي تجري بين قوة عسكرية وأخرى ميليشياوية. فلو كانت المواجهة أمس الأول بين مثل هاتين القوتين غير المعترف بهما دولياً لتسببت ربما بعملية عسكرية غير محمودة، وربما سالت الدماء في تلك المنطقة ان لم تتطور المواجهة الى ما هو أخطر من ذلك.
وإن طلبت القراءة السياسية لما حصل بالأمس من خرق لمتر واحد، فهي تُذكّر بالخرق الإسرائيلي للأراضي اللبنانية حتى مجرى نهر الليطاني عام 1982 عندما كانت المواجهة بين جيش العدو المعترف به دولياً كقوة نظامية ومجموعات فلسطينية وغير فلسطينية مسلحة كانت تتحكّم بمنطقة أطلق عليها اسم "فتح لاند" نتيجة لاتفاق القاهرة الذي شرّع المقاومة انطلاقاً منها في اتجاه الاراضي الفلسطينية المحتلة، والتي انتهت بالحرب التي اجتاحت فيها اسرائيل للجنوب مدعومة بقرار دولي، وتجاوزَ جيشها مجرى نهر الليطاني الى العاصمة بيروت ولم تنته قبل سحب المسلحين الفلسطينيين من لبنان الى تونس ودول أخرى.
وبناء على ما تقدم، فقد شددت المراجع المعنية على أهمية ان تبقى المواجهة محصورة بين جيشين لتكون اي معالجة لأي خرق من اي جهة أتى في عهدة الأمم المتحدة ومراقبيها، ففي وجودها ودورها ضمان لأمن لبنان والجنوبيين، خصوصاً في المرحلة التي تلت عملية ترسيم الحدود البحرية بين البلدين. وإلى ان تستأنف عملية الترسيم البرية، فمما لا شك فيه انّ هناك ضمانات وتعهدات اقرّت على هامش اتفاقية الترسيم البحرية بطريقة مضمونة أنهت كل الاحتمالات بأي مواجهة محتملة من نوع آخر غير تلك المتوقعة عند تكرار ما حصل أمس الأول بين الجيشين في اي لحظة، وهو ما تفسّره ردات الفعل الاسرائيلية الباهتة على التهديدات الاخيرة بتفجير الوضع جنوباً مع اسرائيل وانصراف رئيس حكومتها بنيامين نتنياهو الى الوضع الداخلي في الضفة الغربية وقطاع غزة مُتجاهلاً المخاطر السابقة على الحدود الشمالية لإسرائيل وهو ما ستثبته الايام المقبلة، فالامتحان ما زال مفتوحاً على كل الخيارات الى ان تأتي الوقائع بإثبات هذه النظرية او خلافها.

آخر الأخبار
GMT

آخر الأخبار
GMT